الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد بينا شيئا من هذا في تفسير الآية 17 من سورة التكوير والآية 169 من سورة الأعراف وله صلة في تفسير الآية 59 من سورة مريم الآتية، وكلمة قوام لم تكرر في القرآن وهذه الآيات المدنيات قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ} أي أن صفتهم في تنزيه معبودهم عدم إشراكهم أحدا معه في دعائهم ووصفهم في عدم التعدي على الغير بقوله: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} المزيل لحرمتها وعصمتها كالكفر بعد الإيمان والزنى بعد الإحصان والقصاص {وَلا يَزْنُونَ} أي أنهم مبرّءون من هذه الخبائث التي كان عليها الجاهليون وأنهم مطهرون من كل سوء، وهذا تعريض بالمشركين الذين كانوا يعملون الكبائر القبيحة كهذه {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ} كله أو شيئا منه بأن يزني أو يقتل بغير حق أو يرتد عن دينه والعياذ باللّه {يَلْقَ أَثامًا} 68 عقابا كثيرا لا يقادر قدره وقري يلق بضم الياء وتشديد القاف وفتح اللام، وقريء ابن مسعود أيامى بالياء أي شدائد يقال إلى يوم أيام أي شديدا عظيما، ويلقى بالألف المقصورة، كأنه نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقرّت الألف، وقد ذكرنا غير مرة أن هذه القراءات التي لا زيادة فيها ولا نقص من حيث الحروف جائزة، روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال قال رجل يا رسول اللّه أي الذّنب أكبر عند اللّه؟ قال أن تدعو مع اللّه ندا وهو خلقك.قال ثم؟ قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك.قال ثم؟ قال تزني بحليلة جارك.فأنزل اللّه هذه الآية تصديقا لقوله صلى اللّه عليه وسلم.والأثام قد يأتي بمعنى الجزاء قال عامر بن الطفيل:وروينا الأسنة من صداء ولاقت حمير منها أثاما.هذا وإن من يفعل هذه الأشياء {يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} بحسب مضاعفته عصيان ربه وتعدد المعاصي {وَيَخْلُدْ فِيهِ} أي العذاب لأن الكفر والشرك واستحلال قتل النفس والزنى تقتضي التخليد بالنار إذا لم يتب ومات مصرا على ذلك كما سيأتي، وقرىء فيه بإشباع الهاء بالكسر ولا يوجد في القرآن مثله وكذلك كلمة {مُهانًا} 69 أي ذليلا حقيرا مخزيا {إِلَّا} استثناء من الجنس في موضع النصب لا استثناء المؤمن قد بدل اعتبار الكفر في المستثنى منه {مَنْ تابَ} ومات على توبته {وَآمَنَ} بربه وكتابه ورسوله إيمانا صادقا {وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا} فيما بينه وبين ربه وبين الناس بعد توبته.
وقال الآخر: وقال تعالى هنا، أعين جمعا للعيون الباهرة، لأن لفظ العيون في القرآن العظيم كله جمع للعيون الجارية.وقرئ ذرّيتنا بالإفراد وقرئت بالجمع قال تعالى: {وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِمامًا} 74 يقتدى بنا في أفعال الخير اللهم اجعلنا منهم وقرّ أعيننا بأولادنا وأحفادنا يا اللّه يا اللّه يا اللّه بجاهك على نفسك، وحرمة كتبك وحق أنبيائك ومكانة أوليائك عليك وإمام يستعمل مفردا وجمعا واختير على أئمة المطابق لما قبله لكونه أوفق للفواصل التي قبله وبعده، والمراد هنا الجمع رعاية لمفعول جعل قال تعالى: {أُوْلئِكَ} الذين هذه صفاتهم الممدوحة {يُجْزَوْنَ} من ربهم يوم الجزاء {الْغُرْفَةَ} الدرجة العالية في الجنة، لأن الغرف تطلق على البيوت الفوقية والحجر على السفلية والبيت عليهما، وذلك الجزاء الحسن ينالهم {بِما صَبَرُوا} على طاعة ربهم وعن شهوات أنفسهم في الدنيا هذا على أن الباء في بما سببية أو بدل صبرهم على أنها مصدرية وعليه قوله: وعلاوة على الجزاء الحسن الذي يعطونه ويرون ثوابه فإنهم يكرمون عليه {وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلامًا} 75 من كل مكروه ولا مكروه في الجنة أي دعاء بالبقاء فيها ودعاء بالسلامة، والسلام من اللّه وملائكته ومن بعضهم أيضا، وهؤلاء يبقون في هذا النعيم {خالِدِينَ فِيها} أي الجنة الموصوفة بالغرفة التي هي أعلى منازلها وتسمى محل الأمن من الأكوار قال تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ} الآية 78 من سورة سبأ في ج 2 {حَسُنَتْ} تلك المنزلة الكريمة {مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا} 76 كرمت مقاما وقرارا وهذا بمقابل {ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا} الآية 66 المارة بسياق أهل العذاب الجهنميين {قُلْ} يا أكرم الرسل إن الفائزين بتلك النعم الجليلة التي يتنافس بها المتنافسون إنما نالوها بما عدد من محاسنهم، ولولاها لم يعتدّ بهم كغيرهم، كما أن أولئك الساقطين بتلك البلايا القبيحة التي يتباعد عنها المتباعدون إنما عوقبوا عليها بما عدد من مساويهم الخبيثة ولولاها لكانوا كغيرهم منعمين، ولهذا أكد عليهم يا حبيبي وقل لهم {ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي} ما يصنع وما يبالي بكم {لَوْلا دُعاؤُكُمْ} إياه عند الشدائد الملمات، ولكن لا ينفع هذا نفعا دائما إلا إذا آمنتم به وبرسوله وبكتابه، فإذ ذاك يظهر لكم عند ربكم وزن وقيمة ويعلو قدركم وتسمو مكانتكم عنده، لأنه لم يخلق الخلق إلا ليعبدوه ويحمدوه ويشكروا آلاءه لا لحاجة بهم- راجع تفسير الآية 56 من الذاريات لأن معنى عبأ ثقل والعبء في الأصل ثقل، والنفي منه معناه عدم الاعتناء والاعتداد والاكتراث بالشيء.أي أيّ اعتداد يعتد بكم ربكم إذا لم يكن لكم عنده قدر، فوجودكم لديه وعدمه سواء، وجواب لولا محذوف وتقديره لما اعتد بكم، لأنه لولا ما يقع منكم من الدعاء لكنتم والبهائم سواسية، وهذا بيان لحال المؤمنين من هذا الخطاب العام، أما حال الكفرة منهم فقد ذكره بقوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} برسولي وكتابي أيها الكفرة وجحدتم ربوبيتي ورفضتم توحيدي وعبادتي وكذبتم بي وأصررتم على مخالفة حكمي، ولم تقتدوا بأولئك الطائعين الصالحين من عبادي، الذين بوأتهم دار كرامتي بإنابتهم وإخباتهم لأوامري.قالوا قرأ ابن عباس وابن الزبير وعبد اللّه {فقد كذّب الكافرون} وهذه أن صحّت عنهم فإنهم عنوا بها تفسيرا لا قراءة، وإلا فهي قراءة لا يعتدّ بها ولا يجوز نقلها لما فيها من الزيادة على ما في المصاحف المجمع عليها.على أن الآية تؤدي هذا المعنى دون حاجة للجنوح إلى هذه القراءة غير الصحيحة المخالفة للإجماع.أما ما قاله بعض المفسرين من أن الخطاب لكفرة قريش خاصة، وأن المعنى ما يعبأ بكم لولا إرادته لدعائكم له لعبادته لما عبأ بكم ولا خلقكم، فلا ينافي ما ذكر في تفسيرها، لأن الخطاب فيها عام يشمل كفرة قريش وغيرهم كما يشمل المؤمنين صدرها عامة أيضا، وقد أوضحنا هذا أعلاه، ثم هدد الكافرين المرادين بقوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} بقوله جل قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ} عذابي لكم {لِزامًا} 77 لا يفارقكم ولا ينفك عنكم بل يحيق بكم ويلزمكم حتى يكبكم في النار ويصليكم فيها، وهذا غاية في التهديد ونهاية في الوعيد لأن المعنى أن التكذيب لازم لمن كذب فلا يعطى التوبة كي ينال جزاءه، أجارنا اللّه من ذلك ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن إلا هنا وفي الآية 129 من سورة طه الآتية فقط.هذا، واللّه أعلم، وأستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.
|